أن يكون الغالب على الناس في جميع أمورهم مثل مؤاخاة الإخوان
ذِكْرُ الْغُرَبَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْصَافِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ هُمْ فِيهَا
١١- وَمِنْ صِفَةِ الْغُرَبَاءِ أَيْضًا الَّتِي نُعِتَ بِهَا أَهْلُ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ مِثْلُ مُؤَاخَاةِ الْإِخْوَانِ , وَصُحْبَةُ الْأَصْحَابِ , وَمُجَاوَرَةُ الْجِيرَانِ , وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ , وَعِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ , وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ , وَمَا يُسِرُّونَ بِهِ مِنَ الْأَفْرَاحِ بِالدُّنْيَا وَالْمُتَاجَرَةُ وَالْمُعَامَلَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْبُضْعَةُ وَالْمُزَاوَرَةُ وَالْمُلَاقَاةُ وَالْمُجَالَسَةُ وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْوَلَائِمِ وَأَشْبَاهٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ , فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ وَلِدُرُوسِ الْعِلْمِ فِيهِمْ , فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ الَّذِي قَدْ فَقَّهَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدِّينِ وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ نَفْسِهِ , وَقَبِيحَ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ وَرَزَقَهُ مَعْرِفَةً بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ , وَبَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَبَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ , وَعَلِمَ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ إِذْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَمَلَ بِالْحَقِّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَنْ قَدْ جَهِلَ الْحَقَّ , بَلِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى , لَا يُبَالُونَ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِمْ إِذَا سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ , فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَقَتُوهُ وَخَالَفُوهُ وَطَلَبُوا لَهُ الْعُيُوبِ فَأَهْلُهُ بِهِ مُتَضَجِّرُونَ وَإِخْوَانُهُ بِهِ مُتَثَقِّلُونَ وَمُعَامِلُوهُ بِهِ غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي مُعَامَلَتِهِ , وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْحَقِّ مُخَالِفُونَ , فَصَارَ غَرِيبًا فِي دِينِهِ لِفَسَادِ دِينِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ غَرِيبًا فِي مُعَامَلَتِهِ لِكَثْرَةِ فَسَادِ مَعَاشِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ , غَرِيبًا فِي مُؤَاخَاتِهِ وَصُحْبَتِهِ لِكَثْرَةِ فَسَادِ صُحْبَةِ النَّاسِ وَمُؤَاخَاتِهِمْ , غَرِيبًا فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَجِدُ عَلَى ذَلِكَ مُسَاعِدًا يَفْرَحُ بِهِ وَلَا مُؤَانِسًا يَسْكُنُ إِلَيْهِ , فَمِثْلُ هَذَا غَرِيبٌ مُسْتَوْحِشٌ لِأَنَّهُ صَالِحٌ بَيْنَ فُسَّاقٍ , وَعَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ , وَحَلِيمٌ بَيْنَ سُفَهَاءَ , يُصْبِحُ حَزِينًا , وَيُمْسِي حَزِينًا , كَثِيرٌ غَمُّهُ قَلِيلٌ فَرَحُهُ , كَأَنَّهُ مَسْجُونٌ كَثِيرُ الْبُكَاءِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَلَا يَأْنَسُ بِهِ أَحَدٌ , يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.